- مدة القراءة: 20 دقائق.
مُصادرة الأراضي في المغرب وشُبهة الاغتناء غير المشروع : تحقيق عمر الرّاضي المُجهَض
في 3 مارس 2022، أدانت محكمة استئناف الدار البيضاء الصّحافي المغربي عُمر الرّاضي بالسجن ست سنوات نافذة، وذلك في قضيتين منفصلتين تماماً – “الاغتصاب” و”التجسّس” – جرى التحقيق والبثّ فيهما خلال نفس المحاكمة، خلافاً لأي منطق قضائي. وكان الراضي، الذي كشف تقرير لمنظمة العفو الدولية، في يونيو 2020، عن قرصنة هاتفه بواسطة برنامج التجسس “بيغاسوس”، يعمل آنذاك على تحقيق مطول حول نزع الأراضي (مُصادرة الأراضي)، وهو مشروعٌ جعله يتلقى تهديدات. بفضل الوثائق والمستندات المختلفة (عقد موثق، صور، فيديوهات،…) التي بدأ عمر الراضي في جمعها، والتي اطّلعنا عليها، تكشف “فوربيدون ستوريز” (“قصص ممنوعة”)، بعد عدة أشهر من الاستقصاء لاستئناف مشروعه، كيف استغل مقربون من الملك أراضي الجموع (الأراضي القبلية) للإثراء غير المشروع.
سيسيل أندرِجيفسْكي مع هشام منصوري
19 سبتمبر 2022
22 دجنبر/ديسمبر 2019. تدعو نبرة صوت إحسان القاضي الدافئ إلى الإصغاء فوراً. مديرٌ للمنبرين الاعلاميين المستقلين “راديو إم” (Radio M) و”مغرب إيمرجون” (“المغرب الكبير الناشئ”)، يتولّى الصحافي مهمة مقدم ومنشط برنامج “ضيف المباشر” (L’invité du direct) “على راديو إم”. على الهواء، يبدو مسروراً باستقبال ضيف اليوم.
«الأصدقاء مستمعي ‘إذاعة إم’، يسرّني أن أرحّب هذا الصباح، بضيف المباشر، الصّحافي المغربي المستقل عمر الرّاضي». بهذه الكلمات افتتح إحسان حواره، قبل أن يفتح نقاشاً حول واقع صحافة التحقيق في المغرب الكبير؛ المغرب على وجه الخصوص؛ وينتقل إلى مشروع التحقيق الذي يشتغل عليه عمر الراضي والمتعلق بعمليات نزع الأراضي في المملكة الشّريفة. كعادته، يدخل عمر مباشرة في صلب الموضوع دون أي التفاف : «أشتغل على تحقيقٍ حول قبيلة ‘أولاد سبيطة’ التي طردتها السلطات من أراضيها الزراعية بشمال العاصمة الرباط. تمّ تدمير الغابة وحلّ محلها ملعب للغولف. قاموا أيضاً بخصخصة الشاطئ (…) وبناء المئات من الفيلات والشقق الفاخرة. نحن أمام منطق افتراس عقاري».
أياماً بعد هذا اللقاء، لدى عودته إلى المغرب، استدعت الشرطة المغربية عمر الراضي واعتقلته بداعي تغريدة نشرها أشهراً من قبل على حسابه في تويتر ينتقد فيها قاضيا، بيد أنّ حملة التضامن الواسعة التي حظيت به قضيته أدّت إلى الإفراج عنه أسبوعاً فقط من اعتقاله. في تصريح لـ”قصص ممنوعة” أكّد عمر الرّاضي أن اعتقاله أتى «عقاباً له على مجموع مقالاته وأنشطته». لم يكن يتخيل ربما، وهو المعتاد على انتقاد جهاز الدولة وتتبع العلاقات المتداخلة بين المال والسلطة في بلاده، أن المشاكل ليست سوى في بداياتها.
قبل اعتقاله، كان عمر الراضي مُنكبّاً على التحقيق حول انتهاكات الحقوق العقارية في المغرب، خاصة تلك التي تتمّ عن طريق التلاعب بمفهوم “نزع الأراضي من أجل المنفعة العامة”. بفضل منحةٍ تحصل عليها سنة 2019 من مؤسسة بيرثا (منظمة غير حكومية جنوب أفريقية تسعى إلى «دعم النشطاء والصحافيين والمحامين المدافعين عن العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان»)، كان ينوي أيضاً إطلاق موقع على شبكة الإنترنت (“أراضي”) باللغة العربية، لتجميع كل المعلومات المتعلقة بسياسات العقار في البلاد، يبد أن هذا المشروع لن يُسمح له أن يرى النور أبداً. ففي يونيو/حزيران 2020، كشفت منظمة العفو الدولية (أمنستي) و”قصص ممنوعة” أن هاتفه كان مخترقا ببرنامج التجسس “بيغاسوس”، لتبدأ محنة طويلة ستؤدي إلى الحكم عليه، في 3 مارس/آذار 2022، بالسجن ست سنوات بتهمة “المسّ بالأمن الداخلي للدولة” وتلقي “تمويل من الخارج” وأيضاً “الاغتصاب” – وهما قضيتان منفصلتان، تم التحقيق والبث فيهما معاً.
في القضية الأخيرة، تتهمه زميلة سابقة له في جريدة “لوديسك”، الذي اشتغل فيه عمر الراضي، باغتصابها ليلة 12-13 يوليو/تموز 2020، وهو ما ينفيه الصحافي الذي يتحدث عن علاقة رضائية. وفي القضية الأولى، يُتهم عمر الراضي بمقابلة مسؤولين هولنديين اعتبرتهم النيابة العامة (مكتب المدعي العام) “ضبّاط مخابرات”. وتشمل عناصر الإدانة الأخرى مهاماً أنجزها الصحافي لفائدة شركتين بريطانيتين للاستشارات الاقتصادية (مما جعله يُتّهم بـ”تزويدهما بمعلومات ذات طابع استخباري”)، ومنحة مؤسسة بيرثا لمشروع تحقيقه حول نزع أراضي الجموع. “حكمٌ جائر” حسب تقدير منظمة “هيومن رايتس ووتش” التي اعتبر مدير التواصل والمرافعة داخلها، أحمد رضا بن شمسي، أن «تُهم التخابر غير مقبولة لأنها لا تستند إلى أي شيء. أما تهمة الاغتصاب، فكانت تستحق محاكمة عادلة للمتهم والمشتكي على حد سواء».
في الواقع، تُدين العديد من المنظمات غير الحكومية والتحقيقات الصحفية توظيف النظام المغربي لـ”مكافحة العنف الجنسي” لأغراض سياسية وأمنية وكذريعة لإسكات المعارضين. إلى جانب عمر الراضي حوكم صحافيون آخرون بتهم الخيانة الزوجية أو الإجهاض أو ممارسة الجنس خارج إطار الزواج أو الاعتداء الجنسي، وتهم أخرى. وفقا لإحصاء منظمة مراسلون بلا حدود، يقبع حاليا 9 صحافيين و3 متعاونين في السجون المغربية.
“فضاء عيش استثنائي”
تأخذنا أحد الخيوط التي تتبعها الصحافي، قبل أن تبدأ مشاكله القضائية، إلى أرض ساكنة دوار أولاد سبيطة؛ قريةٌ تقع على مسافة خطوات فقط من بحرٍ ساحر الجمال على بُعد حوالي ثلاثين كيلومترا شمال الرباط. اشتد الطّلب العقاري تدريجياً على هذه المنطقة وهو ما فتح شهية البعض، خاصة المستثمر العقاري شركة “الضحى” الذي وضع هذه الأراضي نصب عينيه ابتداء من خريف عام 2006 لإنجاز مشروعه “شاطئ الأمم”.
وقتاً قصيراً قبل اعتقاله، كتب عمر الراضي في مسودة مقاله أن «المكان يُجسّد فشل التنمية وسوء التنمية، ولكن أيضا الظلم والافتراس». على موقعها على الإنترنت، تفضّل “بريستيجيا”، الفرع الرّاقي لشركة “الضحى”، التحدث بافتخار عن «فضاءٍ استثنائي للعيش صيفاً وشتاءً». رغم محاولاتنا المتكررة والمُلِحّة، لم يستجب مسؤولو التواصل في الشركة ولا محاموها لطلباتنا من أجل إجراء مقابلة.
في وقت إطلاق مشروع “شاطئ الأمم”، كان الرئيس التنفيذي لشركة “الضحى”، أنس الصفريوي واحداً من أبرز أثرياء المغرب المقرّبين من محيط الملك محمد السادس. بشكل أكثر تحديداً، كان رجل الأعمال مقربا من منير الماجيدي، السكرتير الخاص للملك والمسؤول عن إدارة ثروته، الذي برز اسمه في “وثائق بنما”، عبر شركتين كان يديرهما، لكن “تم إنشاؤهما بطريقة شفافة وفي احترام تام للقوانين المغربية والأجنبية” وفقا لمحاميه.
شكّل قرب أنس الصفريوي من المحيط الملكي مصدر ازعاج لبعض منافسيه، كرجل الأعمال ميلود الشعبي، الذي ذهب قيد حياته إلى حدّ اتهام شركة “الضحى” بالاستفادة من امتيازات دعم الدولة”. في تلميح يكاد يكون صريحاً، هاجم الشعبي من وصفهم بـ”أولئك الذين يحظون بأراضٍ وعقارات مقابل أسعار رمزية”. في عام 2013، ذهب ابن عم الملك محمد السادس، الأمير هشام، في نفس الاتجاه عندما أكّد بدوره أن شركة الضحى «على صِلة بالقصر».
إذا كان أنس الصفريوي قد فقد هذه الحظوة سنتان بعد ذلك، إلّا أن شعبيته داخل المحيط الملكي في سنة 2007 كانت لا تزال في أوجها، وهو ما يفسّر إطلاق مشروع “شاطئ الأمم”. خلال هذا العام بالضبط “بدأت شركة الضحى تهتم بأرضنا”، يتذكر محمد بودومة، أحد السكان الذين خاضوا المعركة ضد الشركة، في تصريح لـ فرانس 24 في فبراير/شباط 2017. « تواصل مسؤولو الدولة مع قبيلتنا من أجل شراء الأجزاء الساحلية. قام مندوبون لم نخترهم بالتفاوض نيابة عنا مع وزارة الداخلية التي تملك الأرض، وفقا لقانون موروث عن الحقبة الاستعمارية، إذ لا نملك نحن سوى حق الاستغلال. بادعائهم أن هذه الأراضي، على طول السّاحل، سيشتريها الملك، خَدَعَنا هؤلاء المندوبون. في الحقيقة تم بيعها لشركة “الضحى” حتى تُنفّذ مشروعها “شاطئ الأمم” ».
شكّل هذا التلاعب نواة التحقيق الذي كان عمر الراضي يشتغل عليه. في سنة 2020، لخّص الصحافي لمؤسسة “بيرثا” العملية قائلاً : « ’أولاد سبيطة‘ قبيلة من الفلاحين تعيش في مكان جميل بالقرب من الرباط. في أحد الأيام تلقوا إخباراً بمصادرة أراضيهم لكن دون أن يُطلب منهم المغادرة. أوضحت لهم السّلطات أن صاحب الجلالة بحاجة إلى هذه الأراضي. وبما أن السكان المحليين صدّقوا أن الملك يريد هذه الأرض من أجل مصلحة الوطن، فقد وافقوا على ذلك وغادروا من تلقاء أنفسهم»، قبل يفطنوا للخدعة عندما رأى «أفراد القبيلة أن من أخذ الأراضي ليس سوى شركة خاصة ».
قانون موروث عن الحقبة الاستعمارية
تتمتع أراضي أولاد سبيطة بوضع خاص، فهي أراضي جماعية ينظمها ظهير 27 أبريل 1919 الذي يعود تاريخه إلى عهد الاستعمار. بموجب هذا المرسوم الملكي، تُعتبر هذه الأراضي غير قابلة للتصرف أو النقل أو التفويت، مع وضعها تحت وصاية وزارة الداخلية، أي من حق القبيلة الانتفاع والاستغلال دون الامتلاك. يُشرف على تدبير هذه الأراضي جمع عام من ممثلي الساكنة يُطلَق عليهم اسم “النواب” (مندوبون)، وهم نفسهم من شكّك محمد بودومة في شرعيتهم على “فرانس 24”. في الواقع، لا يُنتخب هؤلاء النواب بأي شكل من الأشكال، وإنما يتم بكل بساطة تعيينهم من قبل السلطات المحلية، وهو ما يجعلهم لا يتمتعون تقريباً بأية سلطة فعلية تسمح لهم بمعارضة أو رفض تعليمات الوزارة الوصيّة.
« بفضل وصايتها، تستطيع الدولة تعبئة جزء من الأراضي الجماعية لإنجاز مشاريع ذات مصلحة عامة »، يقول رجل القانون أحمد بن دلة. بعد الاستقلال، لم يطرأ تغيير كبير على ظهير 1919، بل على العكس، سيتحول هذا القانون الاستعماري إلى أداة في يد “المخزن” (تعبير مغربي يُستعمل لوصف النظام الإداري المركزي للبلاد، ملاحظة المحرر) تمَكّنه من حيازة وعاء عقاري منخفض التكلفة، خاصة أمام تضاؤل موارده الخاصة من العقار. «ولأن هذه الأراضي الزراعية والرعوية تمتد على مساحة تقدر بـ 15 مليون هكتار (وفقا لتقديرات وزارة الداخلية المغربية سنة 2013، ملاحظة المحرر)، كما تشرح ذلك ياسمين بريان، الباحثة في العلوم السياسية، فإنها تتعرض بشكل خاص اليوم للنهب الكثيف لصالح المشاريع الاقتصادية الواسعة النطاق ».
يتابع أحمد بنديلا موضحاً أن « التوسع الحضري جعل قيمة هذه الأراضي، التي كانت حتى الأمس ضعيفة، ترتفع بشكل فجائي وكبير. يمكن نقل ملكية الأراضي بشرطين، أن يتم لصالح هيئة عامة أو ولمشروع ذي منفعة عامة، مثل بناء مدرسة ومبان إدارية وطرق… »، وهي شروطٌ ستختفي مع تعديل القانون سنة 2019. لكن في عام 2007، عندما أسالت أرض دوار أولاد سبيطة لُعاب المنعشين العقاريين، لم تكن هناك أية مراجعة للتشريع، وبالتالي كان يستحيل على القطاع الخاص حيازة هذه الأراضي، على الأقل نظرياً.. لأن تحايلاً ماكراً، غطّت عليه الدولة، سوف تسمح لشركة “الضحى” ببسط يدها على أراضي أولاد سبيطة : بشكل قانوني قامت مؤسسة عمومية باقتناء الأرض من القبيلة، ممثلة في … كاتب الدولة في الداخلية (باسم وصاية الدولة على الأراضي الجماعية)، ثم قامت هذه المؤسسة العمومية بتسليم العقار إلى الشركة التي قدّمت مسبقاً مبلغ البيع، وهو ما وفّر لعملية الشراء ـ التي يفترض أنها ممنوعة ـ غطاءً قانونيا.
« هناك حاجة إلى طرف ثالث من أجل تبييض العملية »
تشرح متخصصة في الموضوع، طلبت عدم الكشف عن هويتها، الحيلة كالتالي : « بما أن عملية نقل الملكية بشكل مباشر إلى القطاع الخاص أمر غير قانوني، فإنها تتم أولا لصالح مؤسسات الدولة، التي تتنازل بعد ذلك عن الأرض للمستثمرين ». إنها طريقة للتحايل على القانون من أجل السماح للقطاع الخاص بالاستيلاء على الأراضي التي يُفترض أن الدولة تحميها. كان عمر الراضي بصدد تفكيك آلية اشتغال هذا التلاعب.
وفقا لوثيقة “الأمر بالحيازة” التي تحصّل عليها عمر الراضي : « بتاريخ 21 أكتوبر/تشرين الأول 2010، باعت ‘جماعة أولاد سبيطة’ ـ ممثلة بوزير الدولة الداخلية ـ لفائدة “صندوق الإيداع والتدبير” (CDG) ممثلا بمديره العام، كامل أراضي ’بلاد أولاد سبيطة’، التي تقع في سلا، بوقنادل، شاطئ الأمم، والتي تتألف من قطعة أرض عارية بمساحة تقريبية تبلغ 355 هكتارا ». في عقدٍ تلقاه المُوّثِّق في نفس اليوم، أعلن صندوق الإيداع والتدبير أن العقار المعني « تم تمليكه لفائدة شركة ’دجى الإنعاش مجموعة الضحى‘ التي دفعت مبلغ البيع بأكمله ». بمعنى آخر : لأن الجماعة لا يسمح لها القانون ببيع الحق أراضيها بنفسها، فإن الدولة ـ بحُكم وصايتها ـ هي التي تنازلت عن أراضي أولاد سبيطة لصالح صندوق الإيداع والتدبير (وهي مؤسسة عمومية) قبل أن تقوم شركة “الضحى”، التي دفعت المال مسبقاً، باستعادتها من صندوق الإيداع والتدبير. بخصوص السّعر الذي تمّت به الصفقة، لا تُشير الوثيقة لأي مبلغ.
مفضلاً عدم الكشف عن هويته، يفكّ مسؤولٌ في وزارة المالية رموز هذه العملية: « بما أن الأمر يتعلق بأرض جماعية؛ نوع خاص من العقار؛ تدخّل صندوق الإيداع والتدبير، كمؤسسة عمومية، ليلعب دور النّاقل (ساعي البريد). هذه وسيلة معروفة للتلاعب بالمسطرة القانونية وتجريد جماعة قبلية من أرضها ». عملية قانونية لاخفاء تلاعب بالقانون.
يضطلع صندوق الإيداع والتدبير، وهو مؤسسة عمومية مغربية أنشئت عام 1959، بمهام تجميع وإدارة صناديق الادخار التابعة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وصندوق الادخار الوطني، والصندوق الوطني للتقاعد والتأمين. يتمتع صندوق الإيداع والتدبير، الذي لم يستجب لطلبات مقابلتنا، بالاستقلالية المالية، كما يحظى بعلاقات متميزة مع « مجموعات اقتصادية وشركات خاصة معروفة بقربها من السلطة السياسية »، وفقاً للباحثين محمد أوبنال وعبد اللطيف زروال. من بين هذه المؤسسات، نجد شركة « الضّحى ». حسب نفس المسؤول في وزارة المالية، فإن هذه الروابط الوثيقة بين صندوق الإيداع والتدبير والضحى هي التي سمحت تحديداً للمؤسسة بأن تلعب دوراً في هذه العملية الثلاثية الأضلاع، لأن هناك « حاجة إلى طرف ثالث من أجل تبييض العملية ». يرى نفس المصدر أن وثيقة الأمر بالحيازة، التي تحصّل عليها عمر الراضي، “تُبرِز بشكل جليّ تواطؤ هذه الأطراف في الالتفاف على القانون، فوزارة الداخلية كانت على عِلم، وهذا أخطر من مصادرة الأراضي [بالشكل القانوني المتعارف عليه]، لقد تم سلب الأراضي من هؤلاء الناس».
شكّلت عملية النهب هذه ومعركة أولاد سبيطة مع شركة الضحى الخيط الناظم لمشروع التحقيق الذي كان يشتغل عليه عُمر الراضي. من خلال إلقاء نظرة فاحصة على هذه الشركة، اكتشفنا في « قصص ممنوعة » أن الفضيحة تذهب أبعد من ذلك بكثير: تُخفي قضية « شاطئ الأمم » “استعمالاً تعسفياً للمعلومة المتميزة” (تداول من الداخل)، مكّن مقرّبين من الملك من الاغتناء غير المشروع. إذا كان تواصل المستثمر العقاري مع ساكنة الدوار قد بدأ سنة 2007، فإن الإعلان عن مشروع “شاطئ الأمم” تم عاماً قبل ذلك، وفي مراسيم احتفالية كبيرة.
في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2006، « ترأس [جلالة الملك] مراسم توقيع مذكرتي تفاهم، تهمّان إنجاز مشاريع سياحية وعقارية بالرباط، بغلاف مالي يقدر بـ 11 مليار درهم تقريبا (مليار يورو، ملاحظة المحرر)، لبناء حديقة للحيوانات (4.7 ملايير درهم، أي ما يعادل تقريبا 450 مليون يورو، ملاحظة المحرر) وتشييد “شاطئ الأمم” (6 ملايير درهم – أكثر من 560 مليون يورو، ملاحظة المحرر) الذي سيضم الآلاف من المساكن والعديد من الفنادق والمطاعم (…) »، كتبت وكالة المغرب العربي للأنباء (لاماب)، الوكالة الرسمية للبلاد، في قصاصة لها. « وقد أُبرمت مذكرتي التفاهم هذه بين الدولة ومجموعة “الضحى”». تحت أعين الملك إذن، تمّ الإعلان عن مشروع “شاطئ الأمم “؛ الذي تسبّب لاحقاً في طرد القبيلة؛ حتى قبل أن تعلم هذه الأخيرة بوجوده.
بيد أن هذه القضية المثيرة أكثر غموضاً ممّا قد تبدو عليه، ففي الـ 10 من نوفمبر، أي ليلة الإعلان الرسمي عن المشروع، انفجرت قيمة أسهم “الضحى”. مصادفةٌ غريبة، يتطلّب فكّ لغزها العودة إلى أخبار سوق الأسهم خلال تلك الفترة. في يوليوز/يوليو 2006، قامت شركة “الضحى” بطرح 35٪ من رأسمالها في البورصة، وهي عملية مربحة أدرّت أنس الصفريوي 2.7 مليار درهم (أو 270 مليون يورو). والمفارقة، حسب أكثر من مصدر، أن الأخير لم يكن متحمّساً في البداية لفتح رأس المال، ولم يرضخ في نهاية المطاف إلّا بعد ضغوط تلقّاها من أعلى مستويات الدولة. بسرعة البرق، ارتفعت قيمة “الضّحى” وواصل سعر السهم تصاعده إلى غاية ‘انفجاره’ يوم الجمعة 10 نونبر 2006. خلال هذا اليوم، الذي وصفته صحيفة “لوجورنال إيبدومادير”، المجلة الأسبوعية المستقلة التي اضطرت إلى الإغلاق سنة 2010 بسبب المحاكمات القضائية والخنق المالي، « عاشت بورصة الدار البيضاء غلياناً كبيراً، إذ تقاطرت أوامر الشراء والبيع منذ الافتتاح إلى أن بلغ سعر سهم “الضحى” أوجَه في 2000 درهماً (…). غرق المتداولون وتجاوزتهم الأمور، وبلغ مجموع المبادلات مليار درهم».
سيجد هذا الاضطراب في سوق البورصة، أخيراً، تفسيراً له في اليوم التالي، مع توقيع مجموعة “الضحى” للمذكرتين الاستثماريتين (السالفتي الذكر) مع الدولة، وبحضور محمد السادس شخصياً. أٍسبوعاً بعد ذلك، يعرض نور الدين الأيوبي، الرئيس التنفيذي لشركة “الضحى”، طموحات المجموعة بخصوص أرض قبيلة أولاد سبيطة : « يتعلق الأمر بخلق قطب سياحي في ’شاطئ الأمم‘ على وعاء عقاري تزيد مساحته عن 450 هكتارا»، أي أكثر بمائة هكتار تقريبا مما سيتم توقيعه لاحقا مع ممثلي الجماعة. « ويضمّ هذا المشروع منطقة سكنية وفنادقاً وملعبا للغولف من 18 حفرة، ومرافق ترفيهية ومنطقة تجارية ». مخططٌ ضخم لا يعتمد سوى على إمكانية استغلال الأراضي الجماعية لأولاد سبيطة.
حتى قبل أن يثير الجدل بسبب تجريد ساكنة الدوار من أراضيهم، يشتبه تورط مشروع شاطئ الأمم في عملية “تداول من الداخل” ببورصة الدار البيضاء. إذ، كما يشير إلى ذلك بعض المتخصصين، مالذي يفسّر انفجار سهم “الضحى”، في 10 نونبر/نوفمبر، غير الإعلانات التي تلت ذلك في اليوم الموالي؟ هل كان بعض المستثمرين على علم بالتوقيع المرتقب تحت الإشراف الفعلي لجلالة الملك محمد السّادس؟
« إذا لم يكن هذا تداولاً من الداخل، فهو يشبهه حدّ التطابق »
سُرعان ما أثار الارتفاع الصاروخي لسوق الأسهم الانتقادات. في نفس مقال مجلة “لوجورنال ايبدومادير”، يتساءل أحد المتداولين قائلاً « إذا لم يكن هذا تداولاً من الداخل، فهو يشبهه حدّ التطابق ». بسرعة تم وأد القضية من قبل دركي البورصة المغربية، مجلس أخلاقيات القيم المنقولة ( “الهيئة المغربية لسوق الرساميل” حالياً)، الذي لم يستجب لطلباتنا لإجراء مقابلة. للعثور على آثار بداية تحقيق، توجّب علينا الانغماس في 600 صفحة من الجزء الأول للتقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات لعام 2010، الذي يكشف أن الأخير وجّه انتقاداً لمجلس أخلاقيات القيم المنقولة. وفقاً للتقرير السالف الذكر، أقدم دركي البورصة على إغلاق بعض الملفات المتعلقة بجرائم محتملة في سوق البورصة “دون تحقيق معمّق”، مشيراً إلى قضية “أ.ض.” (“AD”) كمثال. في الواقع، تشير هذه الأحرف المُريبة إلى التسمية المختصرة لشركة “الضحى”. يوضح أحد القُضاة أن « التقارير لا تنشر أسماء المؤسسات بل تكتفي فقط بالاشارة تلميحاً إليها إلى جانب السنوات. طبعاً، بقليل من اليقظة، يمكن الوصول إلى المعنيين». هكذا إذن، على ما يبدو، تم القيام بكل ما هو ممكن حتى تمر هذه القضية ومثيلاتها في صمت، والدليل أن لا أحد، باستثناء زملائنا في “لكُم”، قام بالربط بين الاسم المختصر “AD” المذكور في تقرير مجلس الحسابات وشركة “الضحى”.
بمجرد فك رموز هذا الاسم، نفهم إذن أن مجلس أخلاقيات القيم المنقولة قد فتح بالفعل تحقيقا بخصوص شبهة التداول من الداخل التي حامت حول “الضحى”، «بعدما لاحظ، أثناء المراقبة، عمليات شراء ضخمة في الفترة التي سبقت نشر البلاغين الصحفيين من قِبل الشركة ». بيد أن هذا التحقيق، وفقا لمجلس الحسابات، حظي بـ”معاملة خاصة”، بعدما «قرّر المدير العام لمجلس أخلاقيات القيم المنقولة إغلاق الملف في 26 شتنبر/سبتمبر 2008 دون تقديم تبرير ودون أن يحظى بمناقشته [داخل المجلس الإداري لمجلس أخلاقيات القيم المنقولة]». ردّاً على طلبنا، رفضت دنيا الطعارجي، المديرة العامة لمجلس أخلاقيات القيم المنقولة خلال تلك الفترة، طلبنا لإجراء مقابلة والرّد على أسئلتنا موضّحةً أن « تحقيقات مجلس أخلاقيات القيم المنقولة تحظى بالسرية».
رغم ذلك، يمكننا أن نطالع في تقرير مجلس الحسابات أن خمسة أفراد، تم إخفاء أسمائهم، يشتبه في تورطهم في هذه القضية، وأن مجلس أخلاقيات القيم المنقولة قد انكب بالفعل على حالات هؤلاء «الأشخاص الذين تربطهم علاقة وظيفية مع الشركة أو علاقة قرابة عائلية مع المديرين»، والذين يبدو أنهم «حققوا أرباحاً هامة تصل إلى ملايين الدراهم» : 200 مليون درهم تقريباً بالنسبة للشخص الأول (20 مليون يورو)، و2، ثم 6، و11 فـ 29 مليون للبقية الآخرين (من 200.000 إلى 2.9 مليون يورو). باستثناء صلتهم بالشركة من خلال مناصبهم أو قرابتهم العائلية، لم يتم الكشف عن أي شيء آخر بخصوص هؤلاء المشتبه فيهم. وفقا للعديد من المراقبين، يتوجّب البحث عن المستفيدين الحقيقيين من هذا التداول الداخلي المحتمل في مكان آخر.
في منفاه بفرنسا منذ عام 2007، يجزم أبو بكر الجامعي، الصحافي المغربي ومؤسس مجلة “لوجورنال إيبدومادير” والمدير السابق للنسخة الفرنسية لموقع “لكم”، أنها مهمّة مستحيلة. «لن تجدوا أبداً هوية الأشخاص الذين قام مجلس أخلاقيات القيم المنقولة بالتحقيق بشأنهم»، يقول الصحافي، الذي يشغل أيضاً منصب أستاذ للاقتصاد بجامعة “إيكس أون بروفانس”. بالفعل، قلّة فقط من المصادر التي تواصلنا معها وافقت على التحدث في هذا الملف، رغم مرور 15 سنة على أحداثه، وجلّها بشرط عدم الكشف عن أسمائها. يبدو أن القمع الشّرس الذي يشهده المغرب ضد الصحافيين والنشطاء والمعارضين قد بدأ يؤتي ثماره.
في تقرير مجلس أخلاقيات القيم المنقولة، تمت الإشارة فقط إلى موظفي “الضحى” أو أقارب السيد الصفريوي، في حين أن المستفيد الأكبر من هذا الإثراء المفترض، وفقاً لأبو بكر الجامعي، «يتواجد على مستوى المُحيط الملكي». يُضيف مصدر آخر مُلّم بشؤون القصر أن «مقربين من الملك اشتروا في البداية شركة “الضحى”، ثم جاءت اعلانات مشاريع شاطئ الأمم وحديقة الحيوانات وغيرها، التي دفعت بالشركة إلى الصفوف الأمامية. ترأس القصر حفل التوقيع بشكل مباشر، وعندما انفجر سعر السّهم، جنوا القيمة المضافة. لقد كسبوا الكثير من المال في هذه العملية.» وفقا لهذا المصدر، لعبت الأراضي بانتظام دور صرّاف آلي لتكديس الثروات في المملكة. «إن أنظف طريقة لطباعة الأوراق النقدية هي أخذ قطعة أرض لا قيمة لها وتحويلها إلى أرض تساوي ثروة»، من خلال بناء فيلات فاخرة على “أراضي جموع” تمت مصادرتها من قبيلة، على سبيل المثال.
Support us so that we can continue investigating
We need your help to expose what the enemies of the press try to keep quiet.
في تصريح لـ”أوجوردوي لوماروك” عام 2006، يقول نور الدين الأيوبي، الرئيس التنفيذي لمجموعة “الضحى”، أن الشركة قامت بحيازة الأراضي مقابل 50 درهما للمتر المربع (حوالي 5 يورو/متر مربع)، أي 225 مليون درهم (أكثر بقليل من 22 مليون يورو، ملاحظة المحرر). كم تبلغ قيمة المتر المربع في الوقت الحالي بشاطئ الأمم؟ على موقعها على الإنترنت، تعرض شركة “الضحى” العديد من عقاراتها ومنها قطع أرضية على المقاس «ستسمح لكم ببناء منزل أحلامكم على ملعب للغولف وفي بيئة مثالية»، بسعر 3500 درهم للمتر المربع الواحد (حوالي 350 يورو/متر مربع)، أي 70 مرة أكثر من المبلغ الذي حصلت عليه ساكنة أولاد سبيطة. بطبيعة الحال، كما يشير إلى ذلك سعد الصفريوي، المدير العام لشركة “الضحى” إلى غاية مارس الماضي وابن شقيق أنس الصفريوي، في تصريح لجريدة “لا ليبر” البلجيكية، «كانت الأرض عارية، وكان من الضروري الاستثمار في الربط بشبكة المياه والصرف الصحي، بالإضافة إلى البناء». ولكن كيف يمكن حيازة أراضي أولاد سبيطة بهذا السعر المنخفض رغم موقعها الجغرافي المتميز؟
«المنفعة العامة غائبة في معظم عمليات نزع الأراضي»
تلجأ السلطات المغربية إلى “نزع الملكية من أجل المنفعة العامة” لغرض “الحصول على الأراضي بشكل مجاني تقريباً، ويُستخدم جزء كبير من هذه الأراضي المتحصل عليها لإغناء القطاع الخاص”، يقول عمر الراضي لمؤسسة بيرثا. مشكلة الفارق بين التعويض الممنوح وسعر البيع في السوق أمرٌ منتشر بشكل واسع. مُستنكراً كون مبالغ التعويض أقل من أسعار البيع في السوق، يتساءل أحد الخبراء بشكل لا يخلو من سخرية، كيف «يمكن للإدارة التي تخبرني عندما أخضع لمراجعة ضريبية أن قيمة أرضي تساوي 20 ألف درهم للمتر المربع الواحد، وأن سعر نفس هذه الأرض هو فقط 30 درهما للمتر المربع عندما يتم نزعها مني؟!». في خطاب ألقاه أمام البرلمان في 14 أكتوبر 2016، أشار الملك محمد السادس إلى أن «العديد من المواطنين يشتكون من قضايا نزع الملكية» وأن «مبلغ التعويض أقل من ثمن البيع المعمول به». بالفعل، فمرجع السعر الذي تستخدمه مصالح الضرائب لمعرفة أثمنة العقارات ليس نفسه المرجع الذي تستخدمه وزارة المالية لتحديد قيمة الأراضي المُصادرة. ومع ذلك، فاللّجنة الإدارية التي تشرف على تحديد سعر الأراضي المُصادَرة تضم ممثلين عن مديرية الضرائب، التابعة لوزارة المالية. خلال ندوة حول “نزع الملكية لأجل المنفعة العامة” نظمتها وزارته يومي 15 و16 مارس/آذار الأخير، يعترف لحسن معزيزي، مدير الشؤون الإدارية والقانونية بوزارة بوزارة التجهيز والماء، أن «مبالغ التعويضات لا تعكس الواقع». أمّا خالد السبيع، مفتش المالية في وزارة الاقتصاد والمالية، فقد أكد خلال نفس اللقاء، أن سعر الأرض الذي تحدده الإدارة أثناء المصادرة يمكن أن يكون 8 مرات، بل 20 وحتى 40 مرة أقل من السّعر الذي تقرره المحكمة في حالة النزاع، مضيفاً أن «هناك إشكالية حقيقية: إما أن هذه اللجان [الإدارية] خارج أي منطق أو أن القرارات القضائية هي التي توجد خارجه».
يذهب المشاركون في هذا اللقاء أبعد من ذلك، بالتشكيك مثلا في مبدأ نزع الملكية للمنفعة العامة برمته. وفقاً لحميد ولد البلاد، المستشار بمحكمة النقض، فالمُشّرع المغربي لم يعرف أبداً مفهوم “المنفعة العامة”؛ رأيٌ يشاطره فيه مفتش المالية خالد السبيع الذي ينبّه إلى «غياب تعريف قانوني» معترفاً بشكل صريح أن «القرارات والاجتهادات القضائية أظهرت غياب المنفعة العامة في جل عمليات نزع الأراضي». ليس هناك أوضح من ذلك.
لا يمكن لكل هذا إلّا أن يذكّرنا بتساؤلات ساكنة أولاد سبيطة. «قيل لنا إن المستثمر العقاري أتى من أجل الصالح العام، لكن هل يمكن اعتبار مشاريع بناء ملاعب للغولف وفيلات خدمةً للمصلحة العامة؟»، تتساءل سعيدة السكات لجريدة ليبراسيون الفرنسية في عام 2017. والمفارقة الكبرى أن المشروع لم يكتمل إلى غاية اليوم، رغم مرور خمسة عشر عاماً على إطلاقه. «مشروع المنطقة التجارية لم ير النور أبداً»، يقول ميشيل باسى، الذي اقتنى سنة 2012 فيلا مساحتها 450 متر مربع، تضم مسبحاً خاصاً وحديقة بمساحة 150 متر مربع، مقابل حوالي 350.000 يورو (3.5 مليون درهم). «كثيرون اقتنوا لكنهم لا يقطنون في المكان. يأتون فقط في فصل الصيف أو [يؤجّرون] مساكنهم خلال العطل، وهذا يحول دون فتح محلات تجارية في عين المكان. لا يوجد سوى متجر بقالة صغير. خارج أشهر الصيف لا يمكنك قضاء أية أغراض ولا القيام بأي شيء بدون سيارة. المشروع بعيد جداً عن الأهداف التي سطّرها. طموحاتهم كانت مبالغ فيها وتجاوزت إمكانياتهم». في انتظار إحالة قضيته على محكمة النقض، يقبع عمر الراضي ـ المُدان بست سنوات ـ في السجن، ولا تزال أمامه أربع سنوات قد يقضيها خلف القضبان.